وجوههم تُشبه بعضها، وكأنهم أشقاء في الاكتئاب، استيقظوا مُبكّرًا حتى يستمتعوا بزحام العاصمة، كان المشهد خلاب للغاية، ميكروباص يقف بالعرض في منتصف الطريق، وتاكسي يحاول أن يسير عكس الطريق، وتوك توك يزحف على الطريق الدائري ويتحرك يمينًا ويسارًا كثعبان يحاول الاختباء ومكتوب على مؤخرته “رميت همومي في البحر.. طلع السمك يلطم”، وموتوسيكلات قررت أن تسلك رصيف المشاة، ومشاة لا مكان لهم فانتحروا، وأتوبيسات نقل عام مكدسة بالرجال والنساء حتى أن الذباب لا يمكنه العثور على مكان له بداخلها، وفي هذه الأتوبيسات احتكاكات عديدة، لكن من يهتم بحماية مؤخرته في أتوبيسات كهذه؟ الناس من فرط الزحام يذكروني بحبات طماطم وضعت معًا في خلاط واحد.
ينظر الناس للعدم، ويفكرون في العدم، ويعيشون من أجل العدم، يبدو أن أغلبهم لم يغسلوا وجوههم بالماء، لقد اعتادوا على ذلك، إما كسلًا، أو لأنهم يريدون اللحاق بالعمل مبكرًا، أو لأن ساعات نومهم لا تكفي، أو لأن أحد العمال في الوحدة المحلية قرر إغلاق محبس المياه الرئيسي لأسباب مجهولة معروفة.
يسير الناس بخطوات بطيئة وكأنهم مرغمين على السير بقوة السلاح، يكتشفوا أن الأسعار ارتفعت، وهذا خبر يومي، لا بد أن سعر شيء ما ارتفع، كباية الشاي مثلًا، أسعار المواصلات، أسعار كروت الشحن، أسعار تذاكر المترو، كل شيء قابل لأن يرتفع سعره إلا الناس ورواتبهم اللعينة، تفرض الحكومة ضرائب جديدة على رواتبهم الضئيلة، من أجل يحيا الوطن، وينتحر المواطن.. المهم في كل هذا أن الناس، كل الناس، لا يبالوا بأي شيء، أتدري؟! لو ضربت أحدهم على وجهه سينظر لك متعجبًا فقط، ثم يكمل ما كان يفعله وكأن شيئًا لم يحدث. هؤلاء الناس لو وجدوا أماكن لبيع اللحوم الرخيصة، سيأكلون فيها بشراهة، ويضحكون على احتمالية أنهم يأكلون لحوم الفئران أو الكلاب أو القطط، وستجد أحدهم يقول للآخر “أنا أعلم أن لحوم الكلاب والقطط ليست ضارة للإنسان، أما مسألة حلال وحرام فيتحملها البائع لأنه يطعمنا هذه اللحوم على أنها لحوم بقرية، ونحن طبعًا لا نعلم أنها لحوم كلاب، فهو من سيحاسب أمام الله”.
في صباح 8 مايو 2018، نعم 2018، ووسط كل هذا التبلد المتصاعد، توقف الراديو عن بث الأغاني الوطنية التي لم تتوقف منذ بدأت الانتخابات الرئاسية، جميع الأغاني الوطنية رديئة ولا علاقة لها بالوطنية، كل ما في الأمر أن هؤلاء الذين لم يجدوا لأنفسهم قيمة وسط الجماهير، يبحثون عن قيمتهم بين أروقة السلطة، فينافقون الرئيس بكلمات لا علاقة بها بالكلمات، وألحان رديئة لا تصلح إلا لسماعها عندما يريد أحدهم أن ينتحر بشكل سريع..
توقفت هذه الأغاني، وقال المذيع “السيدات والسادة، نحيط سيادتكم علمًا بأن السيد الرئيس قد نجح في الانتخابات الرئاسية بنسبة 101%، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ الكوكب، وتعليقًا على هذا العدد المستحيل صرح السيد رئيس الحكومة أنه كان يتوقع أن ينجح الرئيس بنسبة أصوات 200% لأن الكائنات الفضائية يحق لها التصويت ولكن يبدو أن المواصلات كانت صعبة عليهم، وقال رئيس البرلمان أن الشعب قال كلمته حتى لو لم يشارك في التصويت، وأوضح مسؤول من جامعة الأزهر أن نسبة الـ101% أكبر دليل على أن الملائكة كانت تقف في طوابير الانتخابات من أجل إعطاء أصواتهم للسيد الرئيس، وفي تصريح خاص براديو CC صرح مدير حملة “عايزينه تاني” أنه كان يثق من النتيجة رغم صعوبة الانتخابات، مضيفًا “رغم أن السيد الرئيس كان مرشحًا لوحده، إلا أننا كنا نخشى سقوطه نظرًا لانتشار المؤامرات عليه، ونحن بإذن الله سنطلق حملة لإلغاء الدستور بعنوان “بله واشرب ميته” لأن هذا الدستور يمنع الرئيس من الترشح لفترة رئاسية ثالثة كما سنلغي الانتخابات ونولي الرئيس علينا حتى النهاية، نهاية الوطن”.
في اليوم التالي أذاع الراديو بيان الرئيس الذي شعر بالفرحة العارمة عندما علم بنسبة نجاحه رغم أنه ترشح لوحده، وجاء في البيان: “أيها الشعب، فلتفرحوا ولترقصوا ولتغنوا، فأنا ما زلت رئيسكم، أنا أعلم جيدًا أنكم تخشون من مؤامرة الانتخابات الرئاسية، وأن وعيكم اللا واعي، وعقلكم اللا عاقل، جعلكم تدركون اللحظة الحاسمة التي يجب أن أتدخل فيها من أجلكم. أتدرون يا شعبي العظيم، الذي لا ينتمي لشيء سوى لي أنا، والذي لا يهمه إلا بقائي لأجل هذا الوطن، كنت أتمنى أن يترشح أحدهم، ولكن قدر الله وما شاء فعل. كنت أتمنى أن أستريح قليلًا بعدما حققته من إنجازات غير مسبوقة لهذا الوطن، لكن على كل حال أنا أشعر بالراحة وأرى الأمل فيكم، فالأمل كل الأمل في الشعوب الصامتة، غير المبالية، التي لا تتحدث في السياسة أو الحقوق.. وكما وعدتكم من قبل لا تتحدثوا في أي شيء من هذا القبيل، ولن يضركم أحد، أما لو تحدثتم فلا تلوموا إلا على أنفسكم وقولوا على روحكم يا رحمن يا رحيم.
لقد حققت طفرة اقتصادية لا مثيل لها، ولا تقولوا لي أن هناك ملايين صاروا فقراء، واحمدوا الله أننا لسنا اليمن، كما أنني لا أريد أن تحدثوني عمن يتم تصفيتهم بدم بارد لأننا في معركة ضد الإرهاب، واشكروا الله على أننا لسنا ليبيا وسوريا والعراق.